فى عام 1992 قامت الدكتورة مؤمنة كامل استاذ الباثولوجيا الاكلينيكية بجامعة القاهرة وفريقها البحثى بعمل دراسة نشرت فى احدى المجلات الطبية الشهيرة، ضمت الدراسة حوالى 2000 متبرع بالدم من الشباب الاصحاء، وتم اجراء تحليل الاجسام المضادة لفيروس سى للمتبرعين، وهنا كانت المفاجأة حيث كانت النتيجة ايجابية فى حوالى 10% من المتبرعين، هذا الرقم كان صادما حيث ان التقارير الاولية القادمة من معظم دول العالم كانت تشير الى ان معدل الاصابة بتلك الدول يتراوح بين 2-3% مما يشير الى اننا امام تفشى وبائى لفيروس سى فى مصر.

فى عام 1994 قام فريق د/ مؤمنة كامل بدراسة اخرى فى احدى قرى محافظة كفر الشيخ، حيث تم اجراء تحليل الاجسام المضادة لفيروس سى لجميع سكان القرية، وكان معدل انتشار فيروس سى بين سكان القرية حوالى 18%، مرة اخرى كان الرقم صادما.

فى كلتا الدراستين كان معدل انتشار المرض متساوى تقريبا بين الجنسين ولكن كان يزداد تدريجيا مع زيادة السن.

بعد الابحاث الرائدة لفريق د/ مؤمنة كامل والتى ادت الى ان يقر البرلمان المصرى تشريعا يوجب اجراء تحليل الاجسام المضادة لفيروس سى لجميع اكياس الدم التى يتم التبرع بها عام 1994، اجريت العديد من الدراسات المماثلة سواء فى مجتمعات ريفية او مؤسسات صحية وكلها اظهرت نتائج مماثلة.

ولكن ظل السؤال المحير؛ ما هو سبب هذا التفشى الوبائى فى مصر؟! الى أن نشر بحث فى مجلة (Lancet) الطبية الشهيرة عام 2000 يعذى هذا التفشى الوبائى الى حملات علاج البلهارسيا بالحقن والتى اجريت فى الستينيات والسبعينيات واوائل الثمانينيات، فى هذا الوقت كانت البلهارسيا تمثل مشكلة صحية كبيرة فى مصر، وظهر علاج جديد للبلهارسيا عن طريق الحقن (حقن الطراطير)، وقررت وزارة الصحة المصرية آنذاك تنفيذ حملات لعلاج البلهارسيا بهذه الحقن فى جميع قرى مصر، فى هذا الوقت لم تكن الحقن البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد متاحة بعد، وكانت تستخدم السرنجات الزجاجية لاعطاء العقار دون تعقيمها بين الاستخدام والآخر والاكتفاء بغليها بين الحين والآخر، وساهمت هذه الحملات بشكل كبير فى حدوث هذا التفشى الوبائى فى مصر.

اعتبر المجتمع الطبى فى مصر آنذاك ان المشكلة قد انتهت حيث ان حملات علاج البلهارسيا قد توقفت منذ امد طويل، وحيث ان الاصابة بفيروس سى لا يصحبها اى اعراض فى أغلب الاحيان، ولا تبدأ الاعراض فى الظهور الا بعد حدوث المضاعفات بعد سنوات طويلة، تحول فيروس سى فى مصر الى وباء صامت.

فيروس سى وباء صامت

فى عام 2008 تم اجراء اكبر مسح سكانى حتى هذا الوقت وضم حوالى 11,000 شخص من مختلف محافظات مصر، واظهر المسح ان معدل انتشار الاجسام المضادة لفيروس سى حوالى 14.7% فى حين ان معدل انتشار الحمض النووى للفيروس 9.7%، ولو اخذنا فى الاعتبار ان عدد سكان مصر فى هذا الوقت حوالى 80 مليون نسمة، فهذا يعنى ان حوالى 7.8 مليون شخص مصاب بفيروس سى مزمن، واظهرت الدراسة ايضا ان معدل الانتشار اعلى قليلا فى الذكور عن الاناث (17.4% مقارنة ب 12.2%) ويزداد تدريجيا بزيادة العمر، واعلى فى الريف عنه فى المناطق الحضرية (18% مقارنة ب 10.3%).

fig_07

رسم بيانى يوضح زيادة معدل الانتشار مع زيادة السن

 

فى عام 2010 نشر البروفيسور ديولف ميللر (استاذ الوبائيات بجامعة هاواى واحد اعضاء الفريق البحثى لد/ مؤمنة كامل الذى قام باجراء دراسة عام 1992 واحد العلماء الاساسيين بمشروع القضاء على البلهارسيا فى مصر) ورقة بحثية مثيرة للجدل مفادها ان هناك ادلة على انه مازال هناك تفشى وبائى مستمر لفيروس سى فى مصر وان سببه فى الغالب يرجع الى الاجراءات الطبية، وقدرت الدراسة معدل حدوث الاصابة بفيروس سى فى مصر بحوالى 500,000 حالة جديدة كل عام، فى الوقت ذاته كانت وزارة الصحة المصرية تقدر معدل الاصابة ب 100,000 حالة كل عام، ومهما كان الرقم فإن هذا يعنى اننا مازلنا امام تفشى وبائى للمرض فى مصر وانه مازال مستمرا وان سببه الاساسى هو الخدمات الصحية التى لا تراعى اجراءات مكافحة العدوى.

تطور مكافحة العدوى فى مصر:

فى عام 2001 تم اعطاء حوالى 280 مليون حقنة فى مصر، 8% منها (اى حوالى 23 مليون حقنة) ربما لم يتم اعطائها بطريقة آمنة، وكإستجابة لذلك اطلقت وزارة الصحة المصرية برنامج قومى لمكافحة العدوى فى نفس العام لتشجيع الخدمة الصحية الآمنة فى المستشفيات والمؤسسات الصحية فى جميع انحاء مصر.

وقد كشف التقييم المبدأى لمؤسسات وزارة الصحة الآتى:

  • نقص عدد مقدمى الخدمة الصحية اللذين حصلوا على تدريب متخصص او لديهم خبرة فى مجال مكافحة العدوى.
  • عدم توافر برامج رسمية لمكافحة العدوى فى معظم المنشئات الصحية.
  • قصور معلومات مقدمى الخدمة الصحية عن إجراءات واحتياطات مكافحة العدوى.
  • غياب او ضعف إجراءات تعقيم الآلات والتخلص الآمن من النفايات.

وكإستجابة لذلك تم تطوير الدليل الاسترشادى القومى لمكافحة العدوى فى عام 2003 وتم تأسيس برامج مكافحة العدوى فى 450 مؤسسة صحية تابعة لوزارة الصحة، وبدء تدريب العاملين بالقطاع الصحى على إجراءات مكافحة العدوى وتوفير الاشراف والمتابعة المستمرة.

بعد تطبيق البرنامج القومى لمكافحة العدوى، حدث تطور ملحوظ فى التزام مقدمى الخدمة الصحية بالاحتياطات النموذجية لمكافحة العدوى مثل غسيل الايدى واستخدام الادوات الشخصية الواقية واتباع اجراءات الحقن الآمن وتعقيم الآلات والتخلص الامن من النفايات.

فى 2008 تم اختيار الدليل الاسترشادى القومى لمكافحة العدوى من منظمة الصحة العالمية لتطبيقه فى دول منطقة شرق المتوسط، وفى 2011 خضع البرنامج القومى لمكافحة العدوى لتقييم دولى اكد ان البرنامج ادى الى انخفاض ملحوظ فى معدل انتقال العدوى بفيروس سى.

المسح السكانى لعام 2015:

تم اجراء مسح سكانى جديد عام 2015 ولكن هذه المرة تم زيادة عدد الافراد اللذين شملهم المسح ليصل الى حوالى 26,000 شخص من مختلف انحاء الجمهورية، كما تم زيادة الفئات العمرية لتشمل الاطفال من سن 1-14 سنة بالاضافة الى البالغين من سن 15-59 سنة، واظهرت نتيجة المسح ان معدل انتشار الاجسام المضادة لفيروس سى قد انخفض الى 6.3% مقارنة ب 14.7% فى المسح الذى اجرى عام 2008، كما ان معدل انتشار الحمض النووى لفيروس سى انخفض الى 4.4% مقارنة ب 9.7%.

وكما بالدراسة السابقة فى 2008 فان معدل انتشار الاجسام المضادة لفيروس سى كان اعلى بنسبة بسيطة فى الذكور عن الاناث (7.5% مقارنة ب 5.3%)، كما انه يزداد تدريجيا مع زيادة السن ليصل الى 33.9% فى المجموعة العمرية 55-59 سنة.

قد يعذى البعض هذا الانخفاض الكبير فى معدل انتشار فيروس سى فى مصر الى تطور اجراءات مكافحة العدوى والجهود المبذولة فى هذا المجال، وقد يكون هذا صحيح جزئيا، ولكن يجب ان نأخذ فى الاعتبار ان المسح الذى اجرى عام 2015 قد ضم عدد كبير من الاطفال من سن 1-14 سنة (حوالى 10,000 طفل من اجمالى 26,000 فرد ضمهم المسح اى حوالى 38.5%) وكان معدل انتشار الفيروس فى هذه المجموعة 0.4% فقط، بينما بلغ معدل الانتشار فى الفئة العمرية 15-59 سنة 10% مقارنة ب 14.7% فى عام 2008 وهو تحسن مقبول.

 

اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية:

تم تأسيس اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية عام 2006 وفقا للقرار الوزارى رقم449 برئاسة ا.د/ وحيد دوس، وفى عام 2008 وضعت اللجنة الاستراتيجية القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية (2008-2012) واطلقت اللجنة البرنامج القومى لعلاج فيروس سى، حيث اسست 26 مركز علاجى فى جميع انحاء الجمهورية.

نجحت اللجنة فى تخفيض تكلفة العلاج بالانترفيرون بدرجة كبيرة وتم علاج ما يقرب من 360,000 حالة فى الفترة من 2006 الى 2014 بمتوسط 45,000 حالة سنويا وبميزانية قدرها 90 مليون دولار سنويا.

فى عام 2014 ومع اعتماد الادوية الجديدة لعلاج فيروس سى، قامت اللجنة باطلاق خطة العمل للوقاية والعلاج من الفيروسات الكبدية فى مصر (2014-2018)، وفى يوليو 2014 نجحت اللجنة فى التعاقد مع شركة جلياد المنتجة لعقار السوفالدى (سوفوسبوفير 400 مجم) لتوفير الدواء فى مصر بسعر خاص يصل الى 1% من سعره فى الولايات المتحدة الامريكية البالغ 85,000 دولار للكورس العلاجى لمدة 3 شهور، وفتحت اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية الباب لتسجيل الراغبين فى الحصول على العلاج الجديد عن طريق الانترنت فى سبتمبر من نفس العام، وبلغ عدد المرضى الذين قاموا بالتسجيل خلال اليوم الاول من اطلاق الموقع حوالى 120,000 مريض.

قامت اللجنة ايضا باصدار بروتوكول العلاج بالادوية الجديدة فى اكتوبر 2014 وقامت بتحديثه فى مايو ونوفمبر 2015، ونجحت فى التعاقد مع الشركات المنتجة لادوية اخرها وتخفيض سعرها اكثر من مرة، كما قامت بزيادة عدد مراكز العلاج الى ما يقرب من 50 مركز بنهاية عام 2015.

فى اكتوبر 2016 وبعد مرور عامين من بدء برنامج العلاج بالادوية الجديدة، اعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى الانتهاء من قوائم الانتظار للعلاج من فيروس سى بمراكز اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية بعد الانتهاء من علاج حوالى 800,000 حالة بالعلاج الجديد، وفى نفس الشهر وجهت منظمة الصحة العالمية شكر خاص الى مصر لدورها الرائد فى علاج مرضى فيروس سى ليصبح النموذج المصرى نموذج يحتذى به فى كل دول العالم.

ماذا بعد؟

هل وصلنا إلى نهاية المطاف بالنسبة لمشكلة فيروس سى فى مصر؟ الإجابة قطعا لا! تشير الإحصاءات إلى أن هناك حوالى 6-8 مليون مصرى مصاب بإلتهاب كبدى فيروسى سى مزمن، حتى الآن تم علاج ما يقرب من مليون حالة، ولكن حيث أن فيروس سى ليس له أعراض فى أغلب المصابين فإن حوالى ثلثى المصابين بالفيروس ليس لديهم علم بإصابتهم بالمرض، ما تم علاجه حتى الآن هو مجرد قمة الجبل الجليدى أما باقى الجبل فما زال مختفيا تحت الماء. يجب بذل الكثير من الجهد لاكتشاف هذه الحالات وعلاجها، ومنع إصابة حالات جديدة بالمرض.

 

فى اكتوبر 2016 اطلق وزير الصحة ا.د/ احمد عماد اشارة البدء فى برنامج المسح السكانى لتشخيص الحالات المصابة بفيروس سى مبكرا وعلاجها، وتشمل المرحلة الاولى من البرنامج اجراء تحليل الاجسام المضادة لفيروس سى للفئات الاتية:

  • المرضى اللذين يتم حجزهم بمستشفيات وزارة الصحة.
  • جميع العاملين بالمؤسسات الصحية الحكومية.
  • الطلبة الجدد بالجامعات المصرية.
  • المقبلين على الزواج.
  • المتقدمين للتجنيد بوزارة الدفاع.

مع وجود برنامج فعال للوقاية وبرنامج للعلاج وبرنامج للمسح السكانى من المتوقع القضاء على المرض فى مصر بحلول عام 2020 اذا تضافرت كل الجهود نحو تحقيق هذا الهدف.